تخيل لو كنت تعيش في عالم محفوف بالمخاطر يتعرض فيه العاملون في مجال الأرصاد الجوية والاتصالات وخدمات الإنترنت لخطر الإصابة بأعيرة نارية طائشة من مسافات قريبة أثناء مزاولة أعمالهم اليومية. ألن تشعر ببعض القلق على الأقل من أجل سلامتهم، لاسيما في ضوء الدور المهم الذي يؤديه هؤلاء من أجل خدمة البشرية؟
ولكن ماذا لو عرفت أن ما سبق ليس مجرد سيناريو افتراضي أو تخيلي، وأن العاملين المشار إليهم سلفاً هم الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض على مدار الساعة، وأن الأعيرة النارية الطائشة ليست سوى قطع الحطام الفضائي الدقيقة أو مخلفات الصواريخ وأجزاء الأقمار القديمة صغيرة الحجم التي ما زالت تسبح في الفضاء الخارجي، وأن المسافة القريبة المشار إليها ما هي إلا المدارات الفضائية حول الأرض؟
ومنذ أن طرق الإنسان أبواب الفضاء للمرة الأولى قبل قرابة سبعين عاماً من خلال القمر الروسي سبوتنيك 1، وهو أول قمر اصطناعي جاب الفضاء الخارجي، أصبح الفضاء مكتظاً بقطع الحطام والنفايات التي تتحرك حول الأرض بسرعات فائقة. وبحسب الموقع الإلكتروني "ساينتيفيك أمريكان" المتخصص في الأبحاث العلمية، يراقب سلاح الجو الأمريكي قرابة 25 ألف قطعة حطام فضائي في المدار السفلي للأرض، وهي المساحة التي تقع على ارتفاع 2000 كيلومتر أو أقل من سطح الكوكب.
وتستطيع التليسكوبات وتقنيات الرادار الحالية رصد قطع النفايات الفضائية الضئيلة التي لا يزيد قطرها عن عشرة سنتيمترات، بما يوازي حجم فطيرة البيجل، ولكن في حقيقة الأمر، يحتوي الفضاء المحيط بالأرض على الملايين من القطع الأصغر حجماً وقشور الدهانات، فضلاً عن أجزاء دقيقة من الصواريخ وسفن الفضاء والأقمار التي خرجت من الخدمة، وهي أصغر من أن يتم رصدها أو تصنيفها بالتقنيات المتاحة حالياً، وإن كانت تظل تمثل خطراً داهماً لاسيما وأنها تدور حول الأرض بسرعات تصل إلى 10 كيلومترات في الثانية، بما يوازي أكثر من 22 ألف ميل في الساعة، وبالتالي فإن اصطدام أي قطعة من هذه النفايات القاتلة بقمر اصطناعي نشط سوف يكون له تأثير مدمر.
وفي عام 2016، خرقت قطعة حطام فضائية لا يزيد حجمها عن عدة ملليمترات أحد ألواح الطاقة الشمسية في القمر الاصطناعي "سنتينال 1 إيه" التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، وكان الاصطدام قوياً لدرجة أنه أحدث ثقبا بحجم أربعين سنتيمتراً في اللوح وتسبب في اعوجاج هيكله الخارجي. وفي هذا الصدد، لا يمكن أيضاً إغفال الخطر الذي تمثله تلك النفايات على البشر أيضاً، فقبل عدة أسابيع انفجر قمر اصطناعي روسي خارج الخدمة وانقسم إلى مئات الشظايا، مما اضطر رواد الفضاء في المحطة الفضائية الدولية إلى الاحتماء من هذه المقذوفات خشية اصطدام المحطة بقطع حطام فضائية غير مصنفة، مما كان سيتسبب في حادث كارثي.
ويقول عالم الفضاء جوناثان سي ماكدول، من مركز هارفارد سميثونيان لعلوم الفيزياء الفضائية في الولايات المتحدة: "هناك الكثير من قطع النفايات الفضائية التي لا يمكن تعقبها وهي تنطوي على خطورة بالغة". وأضاف في تصريحات نقلها موقع "ساينتيفيك أمريكان" إنه "عندما تتحرك هذه القطع والجزيئات بسرعات مدارية، فإنه حتى أصغر قطعة منها قد تتسبب في لطمة قوية". وبدون وجود وسيلة فعالة لرصد هذه الجزيئات الدقيقة، لا يوجد سبيل لتحذير شركات تشغيل الأقمار الاصطناعية مسبقاً باحتمالات التصادم الكارثية، ولا حتى تقييم حجم الخطر البالغ الذي يتهدد هذه الأقمار.
ولكن هذا الوضع بأسره قد يتغير في القريب العاجل، حيث تعكف الحكومة الأمريكية حالياً على تطوير منظومة جديدة للرصد الفضائي يمكنها تحديد مواقع الملايين من قطع الحطام الفضائي حول الأرض التي يبلغ حجمها عشرة سنتيمترات أو أقل وصولاً إلى عدة ملليمترات في المدار السفلي للأرض وخارجه. وتحمل هذه المنظومة اسم "برنامج تحديد وتعقب الحطام الفضائي" (سينترا) ويشارك فيه أكثر من 100 باحث من عشرات المؤسسات العلمية. وكخطوة أولى، يستخدم برنامج سينترا أجهزة كمبيوتر خارقة ومعادلات خوارزمية تعمل بالذكاء الاصطناعي استناداً إلى قواعد بيانات ضخمة من أجل رصد البصمات الفضائية لأصغر قطع النفايات الدقيقة التي تتحرك بسرعات فائقة. وسوف يكون بمقدور هذا البرنامج رصد الومضات الضوئية الخافتة التي قد تحدث عندما تصطدم قطع الحطام بالغة الصغر، أو تسجيل تموجات البلازما حول الأرض عندما تمر تلك القطع عبر الغلاف الجوي المشحون كهربائياً. ويعتقد علماء الفضاء أن هذه التقنيات سوف تساعد بالقطع في رصد مسارات النفايات الفضائية حول الأرض.
ومن أجل دعم هذا المشروع العلمي، يسعى فريق بحثي من مختبر أبحاث البحرية الأمريكية في واشنطن إلى إجراء تجربة لمحاكاة تأثير تصادم الشظايا الفضائية عن طريق تصنيع قطع دقيقة من الألومنيوم والسيلكون والبلاستيك المصنوع للاستخدامات الفضائية وتحريكها بسرعات فائقة داخل غرف مفرغة الهواء مع قياس سرعاتها ومدى تأثير اصطدامها، وذلك لتغذية المعادلات الخوارزمية بقدر أكبر من البيانات يسمح بتحسين أدائها ويساعد في الكشف عن مزيد من التصادمات الضئيلة التي تحدث بين قطع الحطام الفضائي الدقيقة. ويتمثل الهدف النهائي لهذا المشروع في إيجاد منظومة إنذار مبكر لتلافي الاصطدامات المحتملة بين الأقمار العاملة وقطع الحطام الفضائي الدقيقة.
ويقول الباحث جوناثان ماكدول، وهو ليس من العلماء المشاركين في مشروع سينترا، إن هذه المنظومة هي "انعكاس لحجم التحديات التي نجابهها ومدى تنامي قدراتنا بحيث أصبحنا نفكر في تنفيذ مثل هذا المشروع العلمي"، مضيفاً أن "الوصول لمثل هذا المستوى من الرصد الفضائي يتطلب جهداً بالغاً... ولكنه عمل لابد من إتمامه".