• الساعة الآن 03:14 PM
  • 22℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

تكنولوجيا ما بعد الموت... "دردشة" مع متوفى

news-details

على رغم التطور العلمي الذي وصلت إليه البشرية، إلا أن هناك كثيراً من المعضلات ما زالت تؤرق البشر، غالبيتها مرتبطة بالمشاعر والتعامل معها، إذ لا يزال الباحثون حتى اليوم يحاولون التعرف إلى الطريقة التي يعمل الحزن من خلالها ويجتهدون في سبيل ابتكار طرق نفسية ومادية للتعامل مع الفقد، ولكن حتى اليوم لا يوجد دليل على مدى نجاعة الطرق المطروحة، على رغم تسخير التكنولوجيا للإسهام في هذا الجانب، إذ ما فتئ البشر طوال القرن الماضي يحاولون الوصول إلى أساليب جديدة تساعد الثكالى في التعامل مع مرارة الفقد.

الموتى الأحياء

وفي طور ابتكار مفاهيم جديدة في التحول الرقمي والتفاعل بين الإنسان والحاسوب، شهد البحث في مجال الذكاء الاصطناعي تحسينات كبيرة سمحت بتطبيقات متطورة، بخاصة في مجال روبوتات الدردشة مثل أنظمة تكنولوجية تحاكي لغة الإنسان الطبيعية المكتوبة أو المنطوقة، فظهرت تطبيقات روبوتات دردشة فردية تحاكي سلوك التحدث والكتابة لشخص معين، حياً كان أو ميتاً، يمكن إنشاؤها عن طريق تغذية نظام الذكاء الاصطناعي بالبيانات الفردية لشخص واحد، وبرمجته للعثور على أنماط ترشده إلى تقليد سلوك الكتابة لذلك الشخص.

ويبدو أن الصناعات والتقنيات الرقمية الجديدة التي تعتمد على البيانات الضخمة آخذة في الارتفاع، مع وعود بتوفير أفاتارات تفاعلية ثلاثية الأبعاد وتخزين الذكريات الرقمية للمتوفى.

ففي حين يعاني الجميع الخسارة والحزن، إلا أن العلم يقول لك إنك لم تعُد بحاجة اليوم إلى توديع أحبائك، فيمكنك ببساطة إعادة إنشائهم افتراضياً من خلال إصدار رقمي، والبدء بإجراء محادثات وطرح أسئلة تتمنى معرفة إجاباتها. ومن هنا بدأ ما سمّي "روبوتات الأحزان" في الظهور، ليبدو الأمر وكأنه مستوحى من كتب وأفلام الخيال العلمي و"ديستوبيا" المستقبل القريب.

لكن الحقيقة أن تقنية الذكاء الاصطناعي هذه تثير مجموعة من الأسئلة الأخلاقية والنفسية، علاوة على أننا نفتقد الأدلة التي تشير إلى أن هذه التكنولوجيا تساعد الثكالى في الواقع على التغلب على الخسارة.

"روبوتات الحزن"

تعدّ "روبوتات الموت" أو "روبوتات الحزن" واحدة من أحدث التطورات التكنولوجية التي تتوسط تجربة الحزن وبناء روابط مستمرة بين الفاقدين وأحبائهم بعد الموت، وهي عبارة عن روبوتات دردشة تعتمد على البصمة الرقمية للمتوفى التي توفر لذويه إمكان التحدث معه بعد وفاته من خلال واجهة المحادثة أو الدردشة، فتظهر شخصية افتراضية منشأة بواسطة تطبيقات تعمل على توليد محاكاة للشخص المتوفى، إذ تبنى على الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم نماذج لغوية كبيرةLLMS ، تحاكي الطريقة التي يتحدث بها الشخص المتوفى وتستخدم رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية والتسجيلات الصوتية وغير ذلك.

ومن المفترض أن تساعد التكنولوجيا الأشخاص المفجوعين على التعامل مع الحزن من خلال السماح لهم بالدردشة مع الروبوت كما لو كانوا يتحدثون إلى الشخص ذاته، وبذلك يمكن لروبوتات الحزن أن تمنح الثكالى أداة جديدة للتعامل مع الحزن، أو أن تخلق الوهم بأن الشخص لم يرحل، أو حتى تضطر الثكالى إلى مواجهة موت ثانٍ إذا أردن التوقف عن استخدام التقنية.

تقنية الثانا

مع تطور الإنترنت في منتصف التسعينيات، صاغت البروفيسورة في الخدمة الاجتماعية بكلية سيينا في ولاية نيويورك والخبيرة في التكنولوجيا والحزن كارلا سوفكا مصطلح "تقنية ثانا thanatechnology "لوصف أي تقنية، بما في ذلك الوسائط الرقمية أو وسائل التواصل الاجتماعي، تساعد شخصاً ما على التعامل مع الموت والحزن والخسارة، مثل قيام العائلات والأصدقاء بالنشر معاً على الملف الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي لأحد أحبائهم المتوفين أو إنشاء موقع ويب تخليداً لذكراهم وإعادة قراءة رسائل البريد الإلكتروني أو الاستماع إلى الرسائل الصوتية المسجلة للمتوفى، وقد يفعل بعض الأشخاص ذلك لأعوام للتأقلم مع مشاعر الخسارة الشديدة الوطأة.

و"الثاناتولوجي Thanatology" ‏هي دراسة علمية للموت وما يترتب عليه من خسائر ناجمة عنه، وتبحث في التغيرات الجسدية التي تصاحب الموت وفترة ما بعد الوفاة، فضلاً عن الجوانب النفسية والاجتماعية الأوسع المتعلقة بأهل وذوي الميت.

ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وإنترنت الأشياء وأجهزة الاستشعار التي تعمل على رقمنة وأرشفة كل حركة وتجربة بشرية تقريباً، ستنتقل تقنية الثانا، ومعها التحول الرقمي، إلى آفاق جديدة.

الدراسة الافتراضية للموت

والحقيقة أن دراسات الموت والفناء ومرارة الحزن أصبحت افتراضية في القرن الـ21، إذ نعيش في أوقات غير مسبوقة حقاً للتفاعلات بين الإنسان والحاسوب، ومع اختلاف المناهج المطروحة في التعامل مع الحزن. يقترح النهج الذي يركز على استمرار الروابط مع الشخص المتوفى أن النهاية تعني أكثر من مجرد السماح للشخص بالرحيل، وتظهر بعض الأبحاث والتطبيقات السريرية أن استئناف العلاقة مع الراحلين يمكن أن يساعد الثكالى على التعامل مع الراحلين عنا، مما يعني أنه يمكن لهذه التقنية أن توفر لهن الراحة من خلال مساعدتهن في إعادة التواصل مع أحبائهن، وأن توفر فرصة للمستخدم ليقول بعض الأشياء أو يطرح أسئلة لم تُتَح له الفرصة أبداً لطرحها عندما كان الشخص المتوفى على قيد الحياة، لكن الارتباط القوي والمستمر لا يساعد الثكالى إلا عندما يتمكنّ من فهم خسارتهن، ومحاكاة الأحباء يمكن أن تجعل من الصعب على الناس القيام بذلك وقبول رحيل أحبائهم.

أخطار محتملة

والأهم أن التشابه الغريب بين الروبوتات والفقيد قد لا يكون إيجابياً، إذ تشير الأبحاث إلى أنه يجب استخدام روبوتات الموت هذه كمساعدة موقتة في فترة الحداد فقط، لتجنب الاعتماد العاطفي على التكنولوجيا، ومن هنا يبدي خبراء الصحة العامة والتكنولوجيا قلقهم من أن تحصر روبوتات الحزن الثكالى في محادثات منعزلة عبر الإنترنت، وتجعلهن عالقات غير قادرات على المضي قدماً في حياتهن.

إحياء الموتى على شكل أفاتار يمكن أن يسبب ضرراً أكثر من نفعه، مما يؤدي إلى استمرار مزيد من الارتباك والتوتر والاكتئاب والبارانويا، وفي بعض الحالات، الذهان، إذ يمكن للأشخاص تكوين روابط عاطفية قوية مع شخصيات افتراضية تجعلهم يعتمدون على البرنامج للحصول على الدعم العاطفي، مما ينذر بتهديد خطر للصحة العقلية.

وفي عصر أصبح فيه الموت وتجربة الفقد أكثر صعوبة وأقل خصوصية بكثير، لا يجد البشر وقتاً للتعامل كما يجب مع أحزانهم، فالحقيقة أن الحزن يستغرق وقتاً، وهناك عدد كبير من المراحل المختلفة التي من الضروري أن يمر بها الشخص حتى يستوعب فكرة موت شخص عزيز.

وكان سيغموند فرويد اهتم بكيفية استجابة البشر لتجربة الخسارة، وأشار إلى الصعوبات الإضافية المحتملة لأولئك الذين يشعرون بالحزن إذا كانت هناك سلبية تحيط بالوفاة، على سبيل المثال، إذا كان لدى شخص ما مشاعر متناقضة تجاه شخص ما وتوفي، فمن الممكن أن يشعر الشخص بالذنب، أو إذا مات شخص ما في ظروف مروعة مثل جريمة قتل، فقد يجد الشخص الحزين صعوبة أكبر في قبول ذلك، وأشار فرويد إلى هذا باسم السوداوية أو الملنخوليا.

وفي بعض الحالات، قد يعاني الشخص هلوسات كأن يرى الشخص الميت ويبدأ الاعتقاد بأنه على قيد الحياة، لذا يمكن لروبوتات الذكاء الاصطناعي أن تزيد من صدمة الشخص الذي يعاني حزناً من النوع المعقد هذا، وقد تؤدي إلى تفاقم المشكلات المرتبطة به، علاوة على أخطار تتمثل في تقديم معلومات مضللة للمستخدمين مثل قول أشياء ضارة وتعليقات بأنهم غير محبوبين أو أنهم ليسوا المفضلين لدى أهاليهم، في سيناريو أكثر تطرفاً، إذا اقترح الروبوت الشبح على المستخدم الانضمام إليهم في الموت أو قتل شخص ما أو إيذائه، أو قدم نصائح سيئة لشخص ما في حال حداد.

وفي حين تشير الدراسات إلى أن روبوتات الحزن يمكن أن تكون مفيدة لبعض الأشخاص، ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الدراسات التي تظهر مضارها على الضفة الأخرى، إذ يمكن أن تستخدم كمرحلة انتقالية للتغلب على الحزن في المرحلة الأولى، عندما يكون الحزن شديداً للغاية لا يمكن خلاله مواجهة مرارة الفقد، فيتم اختيارها كأداة قصيرة المدى تساعد في التعامل مع الفقد، والأكيد أن على الأشخاص خفض توقعاتهم عند الدردشة باستخدام محاكاة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لأحبائهم المفقودين.

شارك الخبر: