شهدت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة تحقيق الأحزاب المنتمية لليمين المتطرف مكاسب تاريخية في دول رئيسية بالقارة العجوز، مما أثار تساؤلات بشأن أسباب صعودها وتداعيات ذلك على التوجهات السياسية للاتحاد الأوروبي.
ورغم أن التوقعات تشير إلى استمرار سيطرة أحزاب الوسط والأحزاب الليبرالية على غالبية المقاعد في المؤسسة التشريعية الأوروبية، إلا أن التقدم الذي حققته أحزاب اليمين يُنذر وفقا لمحللين بـ"تحولات جوهرية "، في مقاربة التكتل الأوروبي لعدد من الملفات داخليا وخارجيا.
أسباب التقدم
واستطاعت الأحزاب المنتمية لليمين المتطرف تحقيق مكاسب في انتخابات البرلمان الأوروبي، الأحد، مما وجه ضربة قوية إلى كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، أولاف شولتس.
ومني حزب ماكرون بخسارة مريرة ضد التجمع الوطني اليميني المتطرف ما دفعه لإعلان حل الجمعية الوطنية والدعوة لعقد انتخابات برلمانية مبكرة، أم حزب المستشار الألماني فقد سجل أسوأ نتيجة له على الإطلاق، أمام المحافظين وحزب البديل من أجل ألمانيا المتشدد.
المحلل المتخصص بالشأن الأوروبي والهجرة، زاهي علاوي، يؤكد أن نتائج الانتخابات الأخيرة، وخاصة في ألمانيا وفرنسا، تكشف توجه أوروبا نحو أقصى اليمين، مرجعا ذلك إلى ما اعتبره "فشل الأحزاب التقليدية وحكومات دول رئيسية بالاتحاد في حل المشاكل والقضايا الداخلية العالقة، وتحديدا المواضيع الاجتماعية والاقتصادية".
ويضيف المحلل المقيم في برلين، في تصريح لموقع "الحرة"، أن القضايا الداخلية مثل البطالة والصحة والتعليم، أخذت حيزا أكبر من باقي الملفات الأوروبية المشتركة، باستثناء قضية تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا التي لاقت انتقادات شديدة، خاصة في ألمانيا.
ويضيف علاوي، أن خطابات الأحزاب اليمينية المعارضة تقاطعت في معظم دول الاتحاد بالتركيز على فشل الحكومات والأحزاب التقليدية، وتقديم نفسها كبديل جديد، قادر على مواجهة كل هذه المشاكل، فضلا عن تجديد مواقفها المعادية للمهاجرين.
وبشكل عام، ظلت كتلتا الديمقراطيين المسيحيين والاشتراكيين القوى المهيمنة، في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، بينما جاءت مكاسب اليمين المتطرف على حساب حزب الخضر الذي يتوقع أن يخسر نحو 20 مقعدا ويتراجع إلى المركز السادس في البرلمان الأوروبي.
وعلى مدى عقود، كان الاتحاد الأوروبي يضع اليمين المتطرف على الهامش السياسي. ومع ظهوره القوي في هذه الانتخابات، يمكن لأحزابه أن تصبح لاعبا رئيسيا في سياسات تتراوح من الهجرة إلى الأمن والمناخ.
وكان الصعود القوي لهذه الأحزاب، مدفوعا أساسا بمعاناة العديد من الناخبين من أزمة تكلفة المعيشة، إلى جانب المخاوف المرتبطة بالهجرة وتكلفة التحول نحو الطاقة المتجددة، والشعور بالانزعاج من التوترات الجيوسياسية المتزايدة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، وفقا لرويترز.
وواجه حزب الخضر مثلا، رد فعل عنيف من العديد من الأسر والمزارعين وقطاع الزراعة الذي يعاني من ضغوط شديدة بسبب سياسات الاتحاد الأوروبي باهظة التكاليف التي تحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
ومع انتقال اليمين المتطرف من الهوامش إلى مركز الواجهة، بات يستقطب أصوات شرائح واسعة من المجتمع، وفق تقرير لصحيفة "بوليتيكو".
وتشمل قاعدة مؤيديه مزارعين وعمالا يحمّلون سياسات الاتحاد الأوروبي مسؤولية تدهور أوضاعهم المعيشية، وناخبين من الطبقة الوسطى قلقين إزاء الهجرة وتآكل ما يعتبرونه قيما تقليدية. كما يستقطب بشكل متزايد شبابا يشعرون بالقلق حيال ارتفاع تكاليف المعيشة، أو منبهرين ببساطة بكل جديد.
وتلعب الهجرة أيضا دورا محوريا في جاذبية اليمين المتشدد، إلى جانب قضايا الحرب الثقافية كالإجهاض وحقوق المثليين. ومؤخرا، أضافت الأحزاب الشعبوية الأوروبية الغضب من اللوائح البيئية إلى قائمة القضايا الساخنة التي تتبناها، وفق تقرير لبوليتيكو.
ومما يعزز زخم اليمين المتشدد "غياب البدائل الجذابة"، وفقا للتقرير الذي أشار إلى أنه "في أوقات عدم الاستقرار التي تتسم بالحروب والأوبئة والغموض الاقتصادي، عادة ما يلجأ الناخبون إلى الأحزاب التقليدية الحاكمة، والتي تفككت اليوم في العديد من البلدان".
في هذا الجانب، يقول الخبير في الشؤون الأوروبية، محمد بركات رجائي، إن الأحزاب اليمينية المتطرفة تستغل تزايد أعداد اللاجئين والمهاجرين كورقة انتخابية في برامجها السياسية والانتخابية خاصة في ظل تراجع مستوى معيشة ورفاهية الشعوب الأوروبية.
ويضيف بركات في تصريح لموقع "الحرة"، أن هذه الأحزاب استعملت أيضا ورقة الصعوبات التي تمر منها الاقتصادات الأوروبية بعد فترة جائحة كورونا والتي فاقمها الغزو الروسي لأوكرانيا، في ظل ارتفاع الأسعار وخاصة الطاقة والمواد الغذائية وغيرها، من أجل الترويج لنفسها كبديل للأوروبيين.
ويؤكد أن "هذه الأحزاب لا تقدم أي حلول واقعية لإخراج دول الاتحاد الأوروبي من الأزمات الاقتصادية، لكن قوة خطابها الشعبوي يقوّي رصيدها لدى فئات من الأوروبيين".
التداعيات
وتطرح المكاسب التي حققها اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، أسئلة بشأن مسار السياسات الأوروبية في المرحلة المقبلة، خاصة فيما يتعلق بمسائل مواجهة المساعي الأوروبية لزيادة الإنفاق الدفاعي الموجه لأوكرانيا، وأيضا تشديد القيود على استقبال المهاجرين واللاجئين، والمطالبة بتقليص أعدادهم بشكل حاد.
بركات، يقول إن حصول اليمين المتطرف على أكثر من 30 بالمئة من مقاعد البرلمان الأوروبي، "سيؤدي لا محالة إلى إحداث تغييرات جوهرية ليس فقط على مستوى البرلمان نفسه، وإنما أيضا داخل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي".
لكن على الجهة المقابلة، يقول المحلل السياسي المغربي الفرنسي، مصطفى طوسة، إن وصول اليمين المتطرف بهذا الزخم إلى البرلمان الأوروبي يمثّل "منعطفا كبيرا" في الحياة السياسية الأوروبية، غير أنه "لن يغير الشيء الكثير".
ويوضح طوسة في تصريح لموقع "الحرة"، أن المستجدات الأخيرة "لن تغير الكثير في موازين القوى بالاتحاد الأوروبي ولا في المقاربات العامة لهذا التكتل"، باستثناء أن يكون هناك ضغط داخلي على بعض التعيينات في مناصب حساسة بمؤسسات الاتحاد المختلفة".
وخلال السنوات الماضية، فشلت أحزاب اليمين الأوروبي في تشكيل "مجموعة قوية"، حيث أن أعضاءه منقسمون، لا سيما فيما يتعلق بروسيا وبنقطة الولاء للاتحاد الأوروبي والمؤسسات الأخرى فوق الوطنية، وفقا لصحيفة "فاينانشيال تايمز".
في هذا الجانب يقول بركات، إن هذا الصعود سيضعف موقف الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني اللذان يطمحان لتقوية الاتحاد وفرض توجهاتهما السياسية، خاصة فيما يتعلق بملفات كالحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط وربما حتى في العلاقات مع الصين.
وذكر تقرير سابق لوكالة بلومبرغ أن تقوّي حضور الأحزاب المتطرفة إلى البرلمان الأوروبي من شأنه أن يؤثر أيضا على مسألة الدفاع، إذ من المرتقب أن تواجه دعوات لزيادة الإنفاق على البنية التحتية العسكرية الأوروبية ردا على حرب روسيا في أوكرانيا، معارضة من اليمين المتطرف، حيث لطالما ضمت هذه التيارات في صفوفها جيوبا تتعاطف مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
وتقليديا، كانت مجموعة الهوية والديمقراطية (ID) التي تتشكل من حزب "التجمع الوطني الفرنسي" بزعامة، مارين لوبان، وحزب الحرية النمساوي و"فلامس بيلانغ" البلجيكي، مؤيدة لروسيا وتفضل مغادرة الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، مع سعي لوبان وغيرها من السياسيين الأوروبيين، في المجموعة لاستقطاب الناخبين في الانتخابات الوطنية المقبلة، فقد عدّلوا خطابهم في هذا الجانب، منذ اندلاع الحرب.
ويضيف الخبير بالشؤون الأوروبية، أن وصول أحزاب يمينية متطرفة إلى البرلمان الأوروبي أو إلى السلطة في بلدانها، قد يؤثر على الحرب في أوكرانيا، وذلك أن بعضها "لا تريد استمرار هذه الحرب"، وقد تدفع نحو تخفيض الدعم المالي والعسكري لكييف.
ويوضح أن بعض هذه الأحزاب تربطها علاقات قوية بروسيا وسيكون لها تأثير سياسات البرلمان الأوروبي ودول التكتل بصفة عامة.
وعلاقة بموضوع الصين يقول إن العلاقات معها ترتكز أساسا على الروابط التجارية والاقتصادية، مشيرا إلى أن "مصلحة دول الاتحاد الأوروبي هي استمراريتها، إذ لم تتبن هذه الأحزاب أي مواقف مغايرة فيما يتعلق بمثلا بالنزاع في تايوان، بالتالي لن يكون هناك أي تغيير ملموس".
ويتخوف محللون كذلك من أن يؤدي تقدم اليمين المتطرف إلى فرض مزيد من القيود على استقبال المهاجرين واللاجئين، وتصاعد الأجواء السلبية تجاه الجاليات العربية والمسلمة التي كانت هدفا رئيسيا في الحملات الانتخابية للأحزاب اليمينية المتطرفة.
وذكر تقرير بلومبرغ، أن اليمين المتطرف سيحاول الضغط للمطالبة بمزيد من الخطوات الصارمة لمراقبة الحدود وتخفيضات جذرية في أعداد استقبال المهاجرين، بعد أن وافق الاتحاد على ميثاق جديد للهجرة واللجوء، بعد نحو عقد من المفاوضات.
في هذا السياق، يقول المحلل المقيم في باريس، محمد طوسة، إن تقدم اليمين المتطرف داخل البرلمان الأوروبي لن يؤثر على الأجواء العامة بالاتحاد، باستثناء التأثيرات التي ستطال الجاليات من أصل عربي وأفريقي، موضحا أن "الهم الوحيد لهذه القوى المتطرفة هو تضييق الخناق عليها، والسعي لإرجاع كل المهاجرين المقيمين بدون وثائق رسمية".
وتبنى البرلمان الأوروبي في أبريل، تدابير واسعة لتعديل سياسات اللجوء في الاتحاد الأوروبي، تشدد الضوابط الحدودية على المهاجرين غير النظاميين وتجبر جميع دول التكتل على تقاسم المسؤولية.
ويتوقع طوسة، أن تشهد الفترة المقبلة ملاحقات وأجواء سلبية خصوصا في البلدان التي تعرف مدا كبيرا للهجرة، وتحديدا في دول ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا.
ويقول إن "الصعود الكبير لليمين المتطرف مؤشر سياسي قوي، على أنه يرسخ تواجده داخل المجتمعات الأوروبي، وهي أخبار سلبية لا تحمل أي جوانب إيجابية بالنسبة للجاليات العربية والأفريقية التي تحولت إلى هدف إعلامي وسياسي للخطاب العنصري الذي تحمله هذه التيارات".
بدوره، يرى علاوي، أن التداعيات الأساسية لصعود اليمين ستطال قضايا الهجرة واللجوء، مما سينعكس على أوضاع الجاليات العربية أو المسلمة بأوروبا، وأيضا على ملفات منح الإقامة والعمل.
ويضيف المتحدث ذاته، أن هذه الأحزاب "صعدت من خلال معاداتها لهذه الجاليات ورفضها لسياسات اللجوء والهجرة في كل خطاباتها وحملاتها الانتخابية، من أجل كسب أصوات الناخبين".