على نحو متصاعد، ارتفعت وتيرة المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في مدينة أم درمان، وازدادت معها حالة المغالطات والجدل حول خريطة السيطرة.
ويقول الجيش إنه "بات على مقربة من طرد عناصر المليشيا المتمردة"، بينما تؤكد قوات الدعم السريع أنها "تبسط سيطرتها على الأحياء والمواقع المهمة والحيوية في المدينة".
وشهدت المدينة التاريخية التي يفصلها نهر النيل عن العاصمة السودانية، الخرطوم، اشتباكات بين الطرفين، مع استمرار انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت منذ السادس من فبراير.
وفي أحدث تطور ميداني، أعلن الجيش، أن قوة تابعة له تحركت من منطقة كرري العسكرية، وتمكنت من الوصول إلى منطقة سلاح المهندسين، وأدخلت إمدادات غذائية وعسكرية إلى القوات الموجودة هناك، للمرة الأولى منذ 10 شهور.
ويشير الباحث في الدراسات العسكرية السودانية، عبد المنعم خلف الله، إلى أن "دخول قوات الجيش السوداني إلى منطقة سلاح المهندسين، يبرهن على أن الجيش غيّر استراتيجيته القائمة على الدفاع، وتحول إلى الهجوم، وأنه أضحى أكثر سيطرة وانتشارا في أحياء مدينة أم درمان".
وقال خلف الله لموقع الحرة، إن "الجيش تمكن من فك الحصار المضروب بواسطة قوات الدعم السريع على سلاح المهندسين، ما انعكس سريعا على معادلة وخريطة السيطرة الميدانية".
وأضاف "تمكن الجيش من بسط سيطرته على عدد من الأحياء الواقعة شرقي أم درمان، وخاصة حي أبو روف الاستراتيجي الذي كان تحت سيطرة الدعم السريع".
وتصنف أم درمان، كضلع ثالثة للعاصمة السودانية المثلثة، المكونة من الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان.
وتتفوق على الخرطوم في الأهمية التاريخية، لكونها كانت عاصمة للدولة المهدية التي حكمت السودان في نهاية القرن التاسع عشر، كما أنها شهدت مولد حركات التحرر من الاستعمار البريطاني.
وبدوره، قلل مستشار قائد قوات الدعم السريع، عمران عبد الله، من وصول قوة من الجيش من منطقة كرري العسكرية إلى مقر سلاح المهندسين، وإيصال الإمداد لأول مرة منذ شهور، وأشار إلى أن "ذلك يدلل على تفوق الدعم السريع، وليس العكس".
وقال عبد الله لموقع الحرة، إن "الحصار لا يزال مضروبا من قوات الدعم السريع على مقر سلاح المهندسين. ومن المتوقع أن نعلن السيطرة عليها في أي لحظة، بخاصة عقب زيادة القوة المكلفة بالحصار".
وأشار إلى أن "قوات الدعم السريع لا تزال تسيطر على معظم أحياء ومناطق أم درمان، وأن عناصر الجيش يتسللون خلسة إلى بعض المواقع، ويقومون بتصوير مقاطع فيديو وبثها لاحقا، في إطار الدعاية الحربية".
ويسيطر الجيش على منطقة "وداي سيدنا" التي تقع في شمال أم درمان، وتعد من أهم القواعد العسكرية، كونها تضم قيادة سلاح الجو، وزادات أهميتها مع اندلاع المعارك الحالية في السودان.
ولعب سلاح الجو التابع للجيش دورا محوريا في العمليات القتالية الدائرة حاليا، حيث كثف طلعاته الجوية على تمركزات قوات الدعم السريع منذ الساعات الأولى لتفجر القتال في 15 أبريل 2023.
ومنذ اندلاع القتال، ظلت قوات الدعم السريع تحاول عبور جسر الحلفايا من ناحية الخرطوم بحري (شرقي النيل)، للوصول إلى منطقة "وادي سيدنا" العسكرية في أم درمان (غرب النيل)، لكن الترسانة العسكرية التي ينشرها الجيش صعّبت المهمة.
ومؤخرا باتت قوات الدعم السريع تستخدم راجمات صواريخ بعيدة المدى لقصف منطقة "وادي سيدنا" العسكرية، إذ أعلن الناطق باسمها في بيانات متعددة، أن القذائف تسببت في تدمير طائرات ومقتل عدد من ضباط وجنود الجيش في تلك القاعدة، حسبما يقول.
ماذا يدور في مقر الإذاعة؟
منذ اليوم الأول للحرب، سيطرت قوات الدعم السريع على مقر الإذاعة والتلفزيون السوداني الواقع في أم درمان، وانتشرت في عدد من أحياء المدينة، كما أنها نفذت محاولات متعدد للاستيلاء على مقر سلاح المهندسين الواقع جنوب المدينة.
وفي المقابل، ينفذ الجيش طلعات جوية عبر سلاح الطيران، على محيط الإذاعة لإجبار قوات الدعم السريع للانسحاب منها، ومؤخرا شرع الجيش في تنفيذ عملية برية لاستعادة مقر الإذاعة والتلفزيون الواقع على الضفة الغربية لنهر النيل.
ويرى خلف الله، أن "الجيش يتعامل بحذر شديد في مسألة اقتحام مقر الإذاعة والتلفزيون، لاعتبارات متعلقة بالتاريخ والإنسانية، ولأن الإذاعة تعتبر ذاكرة الشعب السوداني، وأن نيران المدافع يمكن أن تحيل كل ذلك التاريخ إلى رماد".
وأشار إلى أن "الجيش يضع اعتبارا للأعداد الضخمة من المدنيين والأسرى الذين تحتجزهم قوات الدعم السريع في مقر الإذاعة، وتتخذهم دروعا بشرية، ويعمل على تجنيبهم خطر الاقتحام غير المدروس".
وأضاف "الآن يفرض الجيش حصارا محكما على مقر الإذاعة والتلفزيون، ومن المتوقع استعادة المقر تحت أي لحظة، خاصة بعد فرار أعداد كبيرة من مسلحي الدعم السريع إلى الخرطوم عبر نهر النيل، مستغلين المراكب الشراعية وغيرها".
وسرى على نطاق واسع، الأربعاء، أن الجيش السوداني، استعاد السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون. وهي معلومات أسهم غياب الاتصالات والإنترنت في مزيد من الجدل حولها، لكن مستشار قائد قوات الدعم السريع أكد "استمرار سيطرتهم على المقر".
وقال إن "قوات الدعم السريع موجودة في مقر الإذاعة والأحياء المحيطة بها، وما يشاع عن سيطرة الجيش عليها، غير صحيح، ولن يكون. وأما الحديث عن دروع بشرية في الإذاعة فهو كذبة تطلق على كل المواقع".
وأرجع أستاذ الإعلام بالجامعات السودانية، مرتضى أبو زيد، تضارب الأخبار حول مجريات المعارك في أم درمان، إلى غياب الاتصالات، وإلى رهان طرفي القتال على الشائعة، كواحدة من وسائل الحرب النفسية".
وقال أبو زيد لموقع الحرة، إن "طبيعة حرب المدن تجعل من المستحيل تأكيد السيطرة الفعلية على الأرض، لأن الارتكازات التي ينصبها الطرفان، غالبا ما تكون وقتية، وتُزال إما تحت ضغط المعارك، أو للرغبة في التمدد أكثر ناحية مواقع الطرف الآخر".
وحذر أستاذ الإعلام من خطر الاقتتال داخل، أو حول مقر الإذاعة والتلفزيون، وقال إن ذلك "سيعرض تاريخ البلاد إلى التلف، لأن مقر الإذاعة والتلفزيون يضم أكبر المكتبات وبه معظم التراث السمعي البصري السوداني".
وتابع "للأسف المعلومات التي تردنا، تشير إلى أن قوات الدعم السريع أتلفت كثيرا من المحتويات، وحولت المقر إلى خنادق قتالية، وعبثت بالاستديوهات وأجزاء من المكتبة".
ولفت إلى أن "القتال اقترب من مواقع الطوابي التاريخية التي تعد ضمن المعالم الأثرية في أم درمان".
وبنى حكام الدولة المهدية في السودان عام 1896، مجموعة من الطوابي (القلاع) من الطوب والطين، في محاذاة الضفة الغربية لنهر النيل، واتخذوها كحصون قتالية ضمن خطط حربية للتصدي لقوات الاستعمار.
وبدورها، حذرت نقابة الصحفيين السودانيين في بيان، من أن "القتال بين الجيش والدعم السريع، في مباني الإذاعة والتلفزيون من شـأنه تدمير أرشيف يقترب عمره من مائة عام، ويمثل إرثا سياسيا وثقافيا واجتماعيا، للأمة السودانية".
نيران في "بيت المال"
المواجهات التي تجددت في أم درمان بين الجيش والدعم السريع، امتدت إلى منطقة "بيت المال"، إذ أشار الجيش إلى أنه "بسط سيطرته على المنطقة"، كما بث مقاطع فيديو تُظهر قواته في الحي، كتطور ميداني جديد.
ويقع في منطقة "بيت المال"، مقر رجل الدين الصوفي، الأمين عمر الأمين، الذي تحول إلى مقر لإيواء الذين هربوا من نيران الحرب، وتقديم الغذاء والعلاج لهم، بعدما أنشأ الأمين عيادة ميدانية لتطبيب مصابي الحرب من المدنيين.
واتهم ضباط من الجيش السوداني، في مقاطع فيديو متعددة، رجل الدين الصوفي، بموالاة قوات الدعم السريع، ما أفرز موجة من الانتقادات للرجل من مناصري الجيش، إذ حرّض سياسيون بارزون وإعلاميون معروفون على ضرورة محاسبته بتهمة "التعاون مع المليشيا المتمردة".
وأكدت لجنة محامي الطوارئ السودانية، أن قوة من الجيش اقتادت رجل الدين، الذي يتخذ منهجا يزواج بين التصوف والحداثة، إلى جهة غير معلومة، بينما أظهرت مقاطع فيديو عملية الاقتياد.
وطالب عضو اللجنة، أمين صلاح، في حديث لموقع الحرة، "بضرورة إطلاق سراح الشيخ الأمين، وعدم تعريضه لأي خطر، لكونه مدنيا اختار أن يساعد أهل الحي الذي يقطن فيه، حينما اختار الآخرون الفرار والتخلي عن مسؤولياتهم تجاه المواطنين".
ولفت صلاح إلى "أن الشيخ الأمين وقع ضحية للحملة العدائية التي سرت ضده من ضباط بالجيش السوداني وسياسيين وصحافيين وناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي".
ويرتبط الأمين عمر الأمين بعلاقات مع قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان "حميدتي"، ويتبادل الطرفان الزيارات المعلنة. بينما سجل عدد من قادة الدعم السريع زيارات إلى رجل الدين الصوفي خلال الحرب الحالية، ما زاد من حدة الانتقادات الموجهة إليه.
وبالنسبة للباحث في الشؤون العسكرية السودانية، فإن "الأمين لعب دورا مرسوما بعناية لغسل صورة مليشيا الدعم السريع في أذهان الناس، بخاصة عقب الانتهاكات الواسعة التي تورطت فيها ضد المواطنين".
ولفت الباحث، إلى أن "الأمين حاول أن يجمّل صورة المليشيا باستقباله قادتها، وإيهام الناس بأنهم يأتون إليه لتسليمه مساعدات ومواد غذائية ليقدمها للمحتاجين، مع أن المليشيا نفسها تعاني من أزمة غذاء، وتنهب المحال التجارية لتوفير الطعام لمنسوبيها".
بدوره، نفى مستشار قائد الدعم السريع، وجود أي علاقة بين رجل الدين الصوفي، وبين قوات الدعم السريع، وحمّل قيادة الجيش "مسؤولية سلامته، وطالب بعدم الزج بالمدنيين في الصراع".
وأدى تجدد المواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع في أم درمان، لزيادة معاناة المواطنين في الحصول على الغذاء والعلاج، بحسب غرف الطوارئ في بعض أحياء المدينة.
وقال الناشط المجتمعي، منير الطيب، لموقع الحرة، إن "الجيش وصل إلى مناطق كانت خاضغة كليا تحت سيطرة الدعم السريع، واقترب من محيط الإذاعة والتلفزيون، وسط تصاعد المواجهات".
ولفت الطيب، الذي كان ينشط في غرف طوارئ حي أبو روف، قبل أن يهرب مؤخرا إلى أحد معسكرات اللجوء في كينيا، إلى أن "الأخبار التي تحصل عليها، تفيد بأن حالة الرعب عادت إلى المواطنين بدرجات أعنف مما كانت حادثة في السابق، وأن السلع الأساسية تشهد ندرة شديدة، مع ارتفاع كبير في الأسعار".
وأشار الناشط المجتمعي، إلى أن "تجدد المواجهات أدى لإغلاق المراكز الصحية التي كانت تقدم الخدمات الطبية الأولية، مجددا، بعد أن تخوفت الكوادر الطبية والصحية على سلامتها الشخصية".
وتطالب غرف الطوارئ، وهي مبادرات شبابية تشكلت عقب اندلاع الحرب لتقديم الخدمات للمواطنين، طرفي القتال بالسماح بدخول المساعدات الأجنبية إلى المتضررين من النزاع، بخاصة مع تفاقم الأوضاع الإنسانية.
وتحذر منظمات حقوقية منذ أشهر من أن شبح المجاعة يلوح في الأفق في السودان، نتيجة لعرقلة وصول المساعدات الإنسانية والنقص الحاد في التمويل.
والأسبوع الماضي، كشف برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، أن 95 في المئة من السودانيين لا يستطيعون تأمين وجبة كاملة في اليوم.
ووفق أرقام الأمم المتحدة، أدى الصراع بين الجيش والدعم السريع إلى مقتل أكثر من 12 ألف شخص، وأجبر أكثر من 7 ملايين على الفرار من منازلهم، بينهم 1.5 مليون لجأوا إلى تشاد ومصر وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا.
وفي السابع من فبراير، أطلقت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نداء لتقديم دعم دولي بقيمة 4.1 مليار دولار للمدنيين المحاصرين في السودان.
وقالت وكالات الأمم المتحدة إن نصف سكان السودان، أي حوالي 25 مليون شخص، يحتاج إلى الدعم والحماية، وإن الأموال المطلوبة ستخصص لمساعدة ملايين المدنيين في السودان وغيرهم ممن فروا إلى الخارج.