خاص | النقار
يستعد اليمنيون في العاصمة صنعاء ومناطق سلطة أنصار الله لاستقبال شهر رمضان المبارك هذا العام على وقع ارتفاع أسعار السلع الأساسية والذي يشكل عقبة أمام الأسر التي تكافح من أجل توفير احتياجاتها الغذائية اللازمة في حال كان بوسعها الشراء من الأساس.
الأسعار تزداد ارتفاعاً في الوقت الحالي مصاحباً للتصعيد العسكري لأنصار الله في البحر الأحمر، وبات الارتفاع ملموساً في العديد من السلع الأساسية كالقمح والزيت والسكر والأرز والأجبان والألبان والمياه ومستلزمات التنظيف وغيرها، وذاك بالتزامن مع انتشار أحاديث في أوساط الناس عن أزمة احتكار تخزيني للسلع، ما دفع مستهلكين في صنعاء ومحافظات أخرى لشراء متطلباتهم الغذائية وتوفيرها خشية شحّتها في السوق أو تزايد أسعارها بشكل أكبر مع قرب الشهر الكريم.
كذبة خفض الأسعار وحقيقة الجبايات
في البلد الذي سجل ثالث أسوأ مستويات الجوع في العالم في العام 2023 وفق مؤشر الجوع العالمي، تروج سلطة أنصار الله لانخفاض أسعار السلع الأساسية، طبقاً لقوائم سعرية كان أحدثها في شهر مايو الماضي حددت سقوفاً لأسعار السلع، وشملت تخفيضات اعتبرتها الحكومة لصالح المواطنين.
تلك القائمة تضمنت تحديد سعر كيس القمح (حبوب) تعبئة الـ50 كيلوجراماً بـ12,700 ريال بدلاً من 13,200 ريال، وكيس القمح المطحون بـ13,700 ريال بدلاً من 14,200 ريال، وكيس الدقيق بـ14,700 ريال من 15,900 ريال بحسب إعلان وزارة الصناعة والتجارة بصنعاء، والتي ذكرت أيضاً أن الخفض يشمل الزيوت والسمن والأرز والأجبان والبقول والحليب والزبادي وغيرها.
لكن الأسعار في الواقع تظل مرتفعة عن هذه المستويات، بل ومتفاوتة بين التجار وغير موحدة، رغم إعلان أنصار الله عن قيامها بإنزال فرق تفتيش ميدانية دورياً للتأكد من سلامة الأسعار ومدى التزام التجار بها وبالقوائم وإشهارها والتخزين وصلاحية البضائع وخلاف ذلك.
تجار أكدوا لـ"النقار" أن هذه الحملات تعمل بمبدأ التمييز بين ملاك المحلات التجارية وتستهدف في المقام الأول التجار البسطاء وأصحاب المحلات الصغيرة بإغلاقها، فيما يُعفى تجار كبار أو محسوبون على الجماعة من المساءلة عبر دفع مبالغ جانبية من أجل التسوية.
وبحجة مخالفة الأسعار تقوم أنصار الله بإغلاق مكاتب شركات ومحلات تجارية بعينها عبر تلك الحملات، مما يهدد العاملين في الشركات والمحلات المستهدفة بالتعطل عن العمل وفقدان مصدر دخلهم.
ويبيع التجار السلع الغذائية الأساسية مستغلين عدداً من المعطيات المحفزة أبرزها عدم تعاطي السلطة الجاد مع شكاوى المواطنين من ارتفاع الأسعار، وكذا تزايد الجبايات والإتاوات غير القانونية التي تفرضها جماعة أنصار الله، وتدهور القيمة الحقيقية للعملة المحلية.
فمع هذه المعطيات وغيرها تسببت أنصار الله في ارتفاع السلع الغذائية بنسبة تفوق 550% خلال سنوات الحرب مقارنة بأسعار ما قبل العام 2014، واستناداً إلى هذه البيانات التي راجعتها "النقار" لدى الأمم المتحدة، فقد سجلت اليمن أعلى مستوى لأسعار السلع الغذائية منذ أكثر من 30 عاماً.
وسبق وأكد أعضاء في الغرفة التجارية الصناعية بصنعاء حول وقوف أنصار الله وراء ارتفاع الأسعار بسبب فرضها جمارك مرتفعة، مثل التاجر قيس الكميم عضو الغرفة والذي قال العام الماضي إن الجماعة فرضت على التجار مبالغ مالية تحت مسمى جمارك قيمتها خمسة أضعاف ما يُطلب منهم في عدن.
وأكد الكميم أن سلطة أنصار الله برفعها الرسوم المفروضة خمسة أضعاف تسببت في أن يدفع التجار بصنعاء من أربعة إلى خمسة ملايين ريال، بينما يدفعون مليون ريال للجمارك في عدن.
فوضى سعرية وسلطة تجارية للأقوى
لا يزال مشهد تدافع الحشود في نهاية رمضان الماضي عالقاً في أذهان اليمنيين، إذ كان احتشاد الجماهير أمام إحدى مدارس صنعاء للحصول على مبلغ زهيد هو "5 آلاف ريال" من قبل بعض التجار في ليلة عيد الفطر، معبراً بوضوح عن حقيقة المأساة التي تعصف بالمواطنين في ظل أزمة إنسانية توصف بأنها الأسوأ في العالم.
بعد حادثة التدافع التي أسفرت عن مقتل قرابة 90 شخصاً وإصابة مئات آخرين خلال العشوائية المرتجلة التي صاحبت توزيع المساعدات، حمَّلت جماعة أنصار الله التحالف المسؤولية الأولى عن وقوع الحادثة، وحينها تعرضت تلك التصريحات الصادرة عن السلطة لهجوم واسع من المواطنين الذين أنهوا للتو أيام شهر رمضان وعايشوا فعلياً أزمة الغلاء فيه ويتكبدون عناء المعيشة الصعبة طوال أيام السنة، متهمين الجماعة بالاستحواذ على المرتبات وتجويع الناس وإيصالهم لما وصلوا إليه من فقر وفاقة.
ويُذكر أن رجل الأعمال خالد الكبوس، المسؤول عن المساعدات، اتهم أنصار الله بالتورط في الحادثة ومقتل المحتشدين، وخص بالذكر رئيس هيئة الزكاة شمسان أبو نشطان، ووزير الداخلية عبدالكريم الحوثي، قائلاً إن الأول هو من طالب بوقف توزيع المساعدات على المواطنين وحصرها عبر هيئة الزكاة، والثاني هو من أرسل القوة الأمنية التي كانت سبب حادثة التدافع.
هذا العام يعبر المواطن الخمسيني عبدالله الجبري من أحد أسواق صنعاء عن عدم قدرة الناس على مواكبة الأسعار، خاصة "مع اقتراب شهر رمضان يسيطر علينا القلق مسبقاً لأنه موسم قتل المواطنين وإنهاكهم ورفع كل الأسعار بلا حسيب أو رقيب".
يقول الجبري لـ"النقار" إن الرقم المجاني 174 المخصص للإبلاغ عن المخالفات السعرية والتموينية "يتم على الأغلب الرد على الاتصال به لكن يتجاهلون الرد في أحيان أخرى، وفي حال الرد تستفسر وزارة الصناعة عن الشكوى وأسبابها وعن اسم الشاكي، وتتعهد بالعمل على حل المشكلة، لكن لا يتم حلها ويستمر المشكو عليه في العمل بأسعاره المرتفعة وكأن الوزارة لم تقم بإنزال فريق إلى محله أو لم تقم حتى بالاتصال به".
ويُرجع الجبري سبب ذلك إلى "فوضى" تعاني منها السوق اليمنية وتتحمل الجهات الرسمية مسؤوليتها، إذ إن "الأسعار تتفاوت بين المحلات التجارية من منطقة إلى أخرى أو حتى من شارع إلى آخر، وكل تاجر يبيع بـ"خَراجه" وهذا واضح، مثل أسعار الدقيق والبيض والزبادي وغيرها".
وعن ذلك يتحدث مالك أحد المخازن التجارية للمواد الأساسية بالجملة في شارع تعز بصنعاء، طلب عدم ذكر اسمه، مؤكداً أن "أنصار الله يستهدفون محلات المساكين ويغضون الرقابة عن تجار كبار لا يلتزمون بالتعليمات الحكومية بل ويجدون إسناداً حكومياً وتغاضياً عن تلاعبهم بالأسعار".
ويواصل في تصريحه لـ"النقار": "أنصار الله يريدون التزام التجار بأسعار محددة بينما لا تلزم الحكومة نفسها بتسهيل النقل والجمارك، فالبضاعة المستوردة يتم جمركتها أكثر من مرة بما في ذلك في ذمار، هذا إذا لم يتحصلوا رسوماً إضافية (جبايات) تحت أي عنوان، كما أن هذه القوائم بشكل ما قد تتغاضى عن تكاليف الإنتاج للمنتج المحلي".
يشير تاجر الجملة في معرض حديثه إلى واقعة إغلاق شركة "نادفوود" لصناعة الألبان التابعة لمجموعة هائل سعيد أنعم في منتصف العام الماضي بحجة تلقي بلاغات عن رفع أسعار الزبادي، قبل أن تستأنف الشركة أعمالها لاحقاً. يقول: "أنصار الله أغلقوا الشركة بحجة ارتفاع سعر زبادي الهناء، وأرادوا خفض 50 ريالاً من قيمته، والشركة اعترضت على ذلك لأنه يضر بنفقاتها وأرباحها، وأوقفت الإنتاج وضخ الزبادي في السوق".
ويضيف: "لكن يبدو أن أنصار الله أرادوا في نفس الوقت الضغط على هذه الشركة ليتمكنوا من ضخ منتجات أخرى من الزبادي في السوق، وهذا ليس منطق دولة بل منطق تاجر يسعى لتحقيق أرباح وعلى حساب الآخرين".
هذا واتُّهمت الشركة من قبل السلطات بمحاولة إحداث أزمة في السوق غرضها رفع الأسعار، والامتناع عن بيع سلعتي زبادي وحقين الهناء وإخفائهما في قواطر بصنعاء تم ضبطها.
لكن الغرفة التجارية الصناعية رفضت سياسة أنصار الله في تحديد الأسعار وتقويض أسس السوق الاقتصادية القائمة على السوق الحر ومنافسة العرض والطلب، غير أن فريقاً آخر مؤيداً لإجراءات السلطة اعتبر أن التجار يريدون عدم التدخل في أسعارهم ومنتجاتهم وتمرير سياسات التسويق الخاصة بهم وفق اعتبارات تجارية وربحية دون مراعاة أوضاع المواطنين.
وفي اليمن ثمة أكثر من 17 مليون يمني يعانون من انعدام الأمن الغذائي بحسب الأمم المتحدة، قطاع واسع منهم متمركزون في مناطق أنصار الله، ويضطر كثيرون منهم لتناول وجبة واحدة فقط في اليوم بسبب قطع المرتبات وارتفاع أسعار الغذاء وانعدام القدرة الشرائية، وفي اليمن أيضاً تطالب جماعة أنصار الله المواطنين بقبول الأمر الواقع بـ"صمود" ودون احتجاج أو التطرق للحقوق والمرتبات، وتقبَّل الله منكم يا مؤمنين.