"لماذا تتعاملون بحساسية شديدة مع التعدد، مع أن فطرة المرأة تقبله؟"، قال لي أحد الشيوخ ذات مرة. احترت كيف أجيب عن هذا السؤال الذي تبدو إجابته بديهية. هل أشرح له ماذا يعني التعدد بالنسبة إلى المرأة، أم أحدّثه عن اسم الله العدل؟ فضّلت أن أسكت، لأن أي شرح لن يفيد طالما ظل الرجل هو الخصم والحكم.
ماذا لو أخذنا النظارة وأبدلنا العدسات وقرأنا القرآن بعدسة المرأة؟ وحبّذا لو قرأنا القرآن كوحدة واحدة، وليس كآيات متفرقة. كم سيختلف فهمنا للمنظومة الأخلاقية في القرآن حينئذٍ، والتي غابت وسط ملايين الأحكام الجزئية والطقوس الشكلية؟
هذا الاجتهاد حدث بالفعل، وشرحته بالتفصيل نور رفيعة، الباحثة الإندونيسية والمحاضِرة في منهجيات تفسير القرآن في جامعة سياريف هداية الله الإسلامية الحكومية ومعهد الدراسات القرآنية في العاصمة الإندونيسية، جاكارتا، في فصل كامل بعنوان "قراءة القرآن من خلال تجارب النساء"، وهو واحد من 12 فصلاً من كتاب صدر مؤخراً عن "دار الكتب خان"، بعنوان "العدل والإحسان في الزواج: نحو قيم أخلاقية وقوانين مساواتية"، من تحرير زيبا مير حسيني، وملكي الشرماني، وجانا رامينجر، وسارة مارسو، ويأتي كأحد نتائج مشروع بحثي قامت به حركة مساواة لبضعة سنوات، بعنوان "استعادة قيم العدل والإحسان في الزواج".
ترى رفيعة أن قراءة القرآن من خلال تجارب النساء الجسدية والاجتماعية أمر ضروري للوصول إلى العدل الحقيقي، وتضرب مثالاً على ذلك بالآيات التي تتناول الرضاعة وواجبات الأبوين، والتي تبرز تجارب النساء وما بها من ألم ومعاناة والتي يهدف القرآن من خلالها إلى تغيير نظرة القارئ إلى الأمومة، من أمر مُهين، أو ذريعة للتمييز، إلى نظرة تحتفي بالعزم والمثابرة.
تشرح نور رفيعة لرصيف22 أن هذه النظرة الجديدة تجعلنا نرى أن الزوجين (وليس الزوج) هما هدف الزواج ومعيار نجاحه، وأن الحقوق تبادلية، إذ يرعى أحدهما الآخر.
وتضيف: "إذا طبّقنا هذا المنطلق على قوانين الأسرة، فإننا نتعامل مع العلاقة الحميمة مثلاً، كحق لكلا الطرفين، وليس كحق للزوج وواجب على الزوجة، ويجب ممارسة هذا الحق بشكل يضمن السكينة لكلٍ منهما".
تؤكد رفيعة أن من أهم مقاصد الوحي على مدار 23 عاماً كان إصلاح وضع النساء والفتيات. فقد دأب القرآن على تأكيد كرامة النساء وإنسانيتهن الكاملة. وكأي مسار يسعى إلى التغيير الاجتماعي، كان للتوجه القرآني نقطة بداية ومرحلة وسطى وهدف نهائي. ومن ثم يمكننا تحديد ثلاثة أنواع من الآيات تتعلق بقضايا النساء.
النوع الأول يمثل نقطة البداية، وهي الآيات التي تقدّم صورة مجتمع يَعتبر النساء أقل شأناً، وتخاطب مَن يعيشون وسط هذا السياق، مثل الآية 223 من سورة "البقرة": {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ}.
أما النوع الثاني، فيعكس مرحلة وسطى، نتحرك فيها خطوة إلى الأمام، فتدعو إلى العدالة الاجتماعية من داخل المنظومة المحكومة بالأبوية والرّق، والمحدودة بالمعوقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مثل الآية 3 من سورة "النساء": {وإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}.
وأخيراً، هنالك النوع الثالث الذي يُعنى بغاية المسار القرآني النهائية، وهي وضع نموذج يضمن العدل الحقيقي للبشر كافةً بمَن فيهم النساء. من الأمثلة على هذه الآيات، الآية 71 من سورة "التوبة": "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...".
نطالع بشكل يومي خطاباً دينياً ومجتمعياً عن الزواج، نجده مليئاً بالصراخ والعويل والتوعد الشديد؛ حديث مكرر وباهت عن عقد كعقود البيع. ولا نفتأ نسأل، جيلاً بعد الآخر، كيف حِدنا عن الرسالة الأخلاقية للقرآن، ووصلنا إلى تلك الصيغة المهينة جداً للطرفين ولعلاقة وصفها القرآن بالميثاق الغليظ؟
هذا هو السؤال الذي تحاول الكاتبات الثلاث، أستاذة الأدب الإنكليزي والمقارن في جامعة القاهرة المصرية والعضوة المؤسِّسة في "ملتقى المرأة والذاكرة" والعضوة في "فريق عمل إنتاج المعرفة" التابع لحركة "مساواة" أميمة أبو بكر، والباحثة في قضايا النساء في الإسلام والمديرة السابقة لـ"مركز دراسات المرأة في الإسلام" التابع لمؤسسة "الرابطة المحمدية للعلماء" في المغرب أسماء المرابط، والأستاذة المشاركة للدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة هلسينكي الفنلندية ملكي الشرماني، الإجابة عنه، من خلال فصل آخر من ذات الكتاب.تقدّم الباحثات الثلاث نقداً للمنهجيات التفسيرية التي لم تتمعن في المنظومة الأخلاقية للقرآن، فلم تربط بين الجوانب التشريعية في الأحكام الفقهية، والالتزامات الأخلاقية. ويتناولن بعض التفاسير التي انتهجت مقاربة جزئية، نجدها تنتقل من آية إلى أخرى، دون تتبع الروابط في المعاني والمقاصد القرآنية بين الآيات في السور المختلفة (اللهم إلا تلك الروابط اللغوية أو الفقهية الخالصة).
تقترح الكاتبات منهجية تفسيرية كلية، تدرس القرآن من منظور أخلاقي ولغوي وتاريخي يربط بين الآيات المختلفة ذات الصلة. من خلال تلك المنهجية، يضع القرآن أسس العلاقات الإنسانية وفقاً لعدة مبادئ أساسية، أولها أن البشر متساوون في القيمة الإنسانية لأنهم خُلقوا من نفس واحدة، ومسؤولون عن التمثل بالتقوى. أما المبدأ الثاني فهو تعريف القرآن للزواج على أنه ميثاق غليظ بين كيانين متساويين، رباط خاص وقوي من الثقة والالتزام بمصلحة الطرف الآخر والرعاية المتبادلة. ونجد أن لهذا الرباط الأهمية ذاتها التي تميز الرباط بين الأنبياء والخالق. أما المبدأ الثالث، فهو أن القرآن يرسي ثلاث دعائم رئيسية تحقق الحفاظ على هذا الرباط، هي: السكن والمودة والرحمة.
وهنا، ترى أميمة أبو بكر أنه عندما تتأسس القناعة لدى الأزواج والزوجات بأنه ليس هناك أفضلية أو أولوية أو علاقة قوة غير متكافئة بين الطرفين، بمعنى سلطة مفروضة دينياً في تسيير الأمور، ينعكس ذلك على علاقات صحية عادلة داخل الأسرة يسودها الاحترام المتبادل والتفاهم على قدم المساواة الإنسانية والخلق الكريم، وليس على مَن هو الأقوى ومَن يقود ومَن يقرر.
يدعو القرآن إلى تأسيس الزواج على أسس لا يكتفي فيها الزوجان بالحب العاطفي الطبيعي، بل يلتزمان أيضاً بجعل هذه العلاقة تزدهر من خلال الرحمة والإحساس بالآخر، لا سيما أوقات الشقاق والأزمات، وهو ما يجعلنا نلتفت إلى مفهوم الإحسان في القرآن كما تشرحه في الكتاب أميرة أبو طالب، وهي زميلة باحثة في برنامج الدكتوراه في كلية العلوم الدينية في جامعة هلسينكي، حيث تعد رسالتها عن مفهوم الإحسان في رؤية القرآن للعالم.
عند قراءة الآيات التي تتناول مفهوم الحسن قراءة كلية، تتضح لنا الدورة الكاملة لمفهوم الإحسان، بمعنى أن الحسن متضمن في الخلق كافةً، والإحسان مطلوب من البشر في المقابل، إذ تُشتق كلمة "إحسان" من المصدر الثلاثي "ح-س-ن" الذي يجمع بين معاني الخير والجمال ويرد 194 مرة في القرآن. وهذا ما نجده في الآية 90 من سورة "النحل"، والتي تؤكد الأمر بالعدل والإحسان بنبرة قوية وحاسمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.وتؤكد أبو طالب لرصيف22 أنه "تعودنا على تسطيح الأمور وفرض مفاهيم سائدة على عدة مواقف وسياقات، وربط ذلك بالدين دون التفكر في وقع هذه المفاهيم على ما يطلبه منا القرآن. الإحسان على الجانب الآخر، مفهوم مطلق ومتغير، يجعلنا نفكر في معاني الخير والجمال في كل موقف، ونبتعد عن إيذاء أي طرف".
لا شك أنه بعد كل هذه الرسائل الأخلاقية، يصعب علينا استيعاب الهُوّة السحيقة التي تفصل بين قيم الإحسان في القرآن وقبح الواقع المعيش للأسرة المسلمة، وهو ما يجعل تعديل القوانين، بصورة تضمن تحقيق العدل، خطوة ملحة على طريق استعادة قيم الإحسان.
وبينما تُعد هذه الأعمال التفسيرية المبكرة جزءاً مهمّاً من التراث التأويلي، نستلهم منه حرص المفسرين على التفكّر والتمعّن في آيات الله، إلا أن إعمال العقل والضمير معاً لم يعد ترفاً، بل أصبح واجب الوقت هو فهم رسالة القرآن الأخلاقية واستخدامها في استنباط أحكام أكثر عدلاً، بدلاً من إعادة تدوير تفسيرات أبوية قديمة.
تمنيت كثيراً في صغري أن أجد شيخة أو مفتية ولو لمرة واحدة، امرأة تستطيع أن تشعر بي فعلاً، بدلاً من مئات الرجال الذين يُنَظِّرون ليل نهار عما يجب أن تكون عليه فطرة المرأة، ولباس المرأة، بل ومشاعر المرأة!
عرفت بعد ذلك أن الاجتهاد في المعرفة الدينية، لا يحتاج شيوخاً فحسب، بل يحتاج كذلك إلى مَن يمتلك/تمتلك أدوات البحث والتحليل، ومَن ينقل/تنقل لنا الواقع المعيش.
وعند إعداد أطروحة الماجستير الخاصة بي، تحدثت مع أربعة رجال دين، ما بين شيوخ وأكاديميين، أكد لي ثلاثة منهم أننا لو أردنا الاجتهاد في قوانين الأسرة وحقوق المرأة، فلا يكفي أن يجتهد الشيوخ، بل لا بد من وجود لجنة فيها رجال ونساء متخصصون ومتخصصات في الدين، وفيها كذلك مَن يمتلكن المعرفة اللازمة بواقع النساء. أتصور أن هذا هو ما يعول عليه، وما يؤكد أن التغيير قادم لا محالة